نصوص الرؤيه
لم يكتب آيه الله السيد الخامنئي هذه النصوص، بل هي مقتطعات من خطابات و بيانات قيلت في مناسبات مختلفه، جمعناها و قمنا بترجمتها، آملين ملاحظه الفرق بين النص المكتوب لغرض التأليف، و بين الكلام المقول.
«نحن ايرانيون، فعلينا اذن ان نبحث عما يرتبط بنا، و نعثر عليه. بديهي هذا لا يعني ان لا نتعلم من محاسن الآخرين. فالانسان يتعلم مما عند الآخرين من محاسن و اشياء جيده، و لكن من الافضل ان يذوب ما يكسبه، في ثقافته، ثم يستفيد منه.
لقد تحدثت مره عن الثقافه و قلت لا ضير من أخذ ثقافه الآخرين، و لكن علي نحو يتم فيه التمييز بين كيفيتين. و لتقريب المسأله نضرب لها مثالاً من عمل جسم الانسان. فجسم الانسان يتعاطي مع العناصر الغربيه بكيفيتين؛ ففي الكيفيه الاولي يتناول الانسان طعاماً يحوي فيتامينات مختلفه.. يخلط الطعام باللعاب و يدفعه الي داخل المعده، و حينئذ تمتص المعده ما تراه مفيداً للجسم مناسباً له، و تدفع الباقي و تلفظه.
هذا هو التعاطي الايجابي. و بإزائه ثمه نوع آخر من التعاطي، اذ نأتي بالانسان و نرسف يديه بالقيود، ثم نزرق في بدنه ماده لا يريدها و لا يرغب بها. هذه الحاله غير الحاله الاولي في كيفيه تعاطي الجسم مع العناصر الغريبه عليه.. و كان يمكن للمسأله ان تهون لو ان التزريق في الحاله الثانيه يتم من قبل طبيب عارف، و حريص علي الإنسان. و لكن ماذا لو كان هذا الطبيب عدواً، فماذا تراه يزرق في جسم خصمه؟
يلخص هذا المثال قصتنا مع الثقافه الغريبه (ثقافه الآخر) فنحن اليوم، مع الاسف، نستهلك الثقافه الاجنبيه، و هي تجد طريقها سالكاً الي اجسامنا من دون ان يصدر عنا رد فعل. و هذا هو ما يصطلح عليه بالغزو الثقافي.
يتخيل بعضهم انه هو المعني بالقضيه. الا ان المسأله تأخذ بعداً آخر، فالغزو الثقافي يأتينا من جهه معاديه.. من جهه الغرب، و علينا ان نستيقظ و نعي المسأله.. فنحن لا يسعنا ان نقول للعدو لا تتعامل معنا بعداوه و خصومه، لان العداوه من طبيعه العدو.
لذلك لا نملك –أنا و انتم – سوي ان نستيقظ و تلتزم جانب الحذر.
أجل، لو عثرنا في معارف الغرب علي ما يناسبنا، فعلينا ان نجذبه، و نتعاطي معه كما يتعاطي الانسان السليم مع الغذاء؛ اذ هو يجذب المفيد لجسمه و يدفع الضار. و كذا الحال مع – ثقافه الغرب – اذ علينا ان نتعامل معها تعاملاً عضوياً للجسم الحي، نأخذ ما يفيدنا و نلفظ ما لا ينفعنا.
في ضوء ذلك لا يصح لنا، أن نتعامل مع ثقافه الآخر تعامل الانسان الخالي من اي شيء.. الفاقد لكل خلقيه، كما لا يصح ان نتعامل معها تعامل الانسان الحائر الثمل.
لا أدري ماذا دهانا حتي تزرق الثقافه الغربيه بمثل هذا الشكل في ابداننا، في حين نملك امكانيه الاختيار؟ ما هو حاصل الآن؛ ان موج الثقافه الغربيه يغزونا و ينفذ في وجودنا من خلال المذياع و التلفاز و كتب الموضه و الموديلات و المجلات، و من خلال الموج الدعائي و الصخب الاعلامي.
اذا انفتح مجتمع ما علي المعارف و المعلومات، فستزدادً مناعته مقابل العدو. و اذا كان للمجتمع حساسيه ازاء العلم، فسيبادر حين تتاح له فرصه التواصل مع البلدان و المجتمعات الاخري، لكسب العلم و اخذه منها.
لقد مارست القدرات الاستعماريه نشاطها في ايران منذ سنوات و عندما جاء الحديث عن التبادل و التفاعل بين بلدنا و البلدان الاخري رأينا المسأله تأخذ مساراً معاكساً. فبدلاً من ان نعرض ثقافتنا العظميه امام العالم لتيعلم منها الآخرون، و نستفيد نحن في المقابل من علوم الآخرين، رأينا انفسنا – و هذا مجرد مثال- نعرض صناعاتنا اليدويه في معارض الآخرين أو نمنحهم نفطنا لكي يديروا عجله مصانعهم.. و نبقي بالمقابل بلا حراك أو رد فعل ايجابي، بانتظار ان يهبوننا ثقافتهم الفاسده!
هذه هي خلاصه قصه طلائع دعاه ارتباط ايران ثقافياً مع الغرب. فأولئك الرموز و الرواد الاوائل، لم يدعوا مواطنيهم الايرانيين ابداً الي كسب ما يستطيعون كسبه من العلم الغربي، و لو كانوا قد دعوا الي ذلك لاستقبلنا دعوتهم.
و نحن الآن نعلنها صراحه، ان العالم شهد تقدماً في العلوم، و أبقانا متخلفين قرنين او ثلاثه قرون عن ركبه.. علينا ان نلحق بالركب و نبلغ التقدم.. علينا ان نستفيد من علومهم و نكسبها.
التعليم و التعلم هما أمران ضروريان.. و علي كل واحد منا ان يتعلم.. و حين نعود الي الاسلام في الحديث المشهور «اطلب العلم و لو في الصين» نجد انه لم يكن بلد ابعد من الصين عن وطن المسلمين يومئذ. و مؤدي المثال، ان يكابد المسلم المشاق، ليكسب العلم و يتعلم. هكذا علم النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) المسلمين.. و نحن اليوم علي هذه العقيده.. علينا ان نستفيد من جميع العلوم، و لكن شرط ان يكون مبتغانا تعلم العلم و نيله، و ليس كسب مفاسد الاخلاق.. التلوث الاخلاقي.. الادمان.. الامراض الخطيره المميته كالطاعون الاميركي المسمي بالايدز، و بقيه ضروب المفاسد الاخلاقيه.
يحصل احياناً أن يكون العلم بيد اعدائنا، فنذهب اليهم و ننحني أمامهم لكسبه.. ليس في ذلك ضير، فالعلم أرفع شأواً من ان ينصرف عنه الانسان، لعداوه مع من يستحوذ عليه، و لكن ما يعنينا في هذا المضمار هو ان يخضع الانسان الي تأثير العدو، و يكون تبعاً له، و تحت سلطته، و ذلك في المسائل التي لا تنتسب الي العلم.. اي في السياسه و الثقافه و ما شاكل ذلك. ان ما يراد للعالم الثالث، و ما يخطط له، هو التبعيه الثقافيه و السياسيه.. لقد رتبوا الامور علي نحو لا يتم فيه تبادل العلم و التكنولوجيا.
و يمكن ان ندرج في هذا المضمار معضله فرار العقول و هجره الادمغه، التي يعاني منها العالم المتخلف منذ عشرات السنين.. فهم يخطفون افضل الطاقات و العقول التي تتحلي بها بلادنا، بل و لم يسمحوا - في اطار ابقاء حاله التخلف و ترسيخ التبعيه- للطاقات المستعده التي تلقت تعليمها في العالم الثالث نفسه، ان تعود للخدمه، الي بلادها.
ثم فارق بين الغزو الثقافي، و بين التفاعل او التبادل الثقافي.. التفاعل الثقافي يعبر عن ضروره تحتاج اليها الشعوب. فليس ثمه شعب من الشعوب يستطيع الاستغناء عن التعلم من معارف الشعوب الاخري، بما في ذلك الثقافه و المسائل التي تندرج في العنوان الثقافي.
و مسار التأريخ كان ابداً كاشفاً عن حاله التفاعل علي هذه، و شاهداً عليها باستمرار.
قادت العلاقه بين الشعوب، و التواصل فيما بينها، الي تفاعلها علي صعيد آداب العشره.. الاخلاقيات العامه.. العلم.. شكل اللباس.. طراز الحياه.. اللغه.. المعارف.. و الدين.. و هذا الضرب من التفاعل يفوق في أهميته عمليه التبادل الاقتصادي و تبادل السلع.
لقد شهدنا طوال التأريخ أمثله قاد فيها التفاعل (التبادل) الثقافي، الي تغيير دين بلد بأكمله. فالذي حصل في شرق آسيا علي سبيل المثال؛ اي في شرق المنطقه الاسلاميه، هو دخول الاسلام الي اندونيسيا و ماليزيا، و اجزاء مهمه من شبه القاره، عن طريق افراد قلائل (آحاد) من ابناء الشعب الايراني. و لم يتم انتشار الاسلام هناك عن طريق ممارسه المبلغين للدعوه.. فعن طريق حركه التجار و السياح الايرانيين تحول الشعب الاندونيسي الذي ربما يعد اكبر الشعوب الاسلاميه، الي الاسلام.
فالاسلام لم يصل الي تلك المنطقه للمره الاولي، لا عن طريق الدعاه و المبلغين الدينيين، و لا عن طريق السيف و الحرب و القتال، بل كانت الفضيله لعمليه التزاور و التبادل الثقافي.
لماذا نذهب بعيداً، و نحن نجد ان شعبنا تعلم اشياء كثيره طوال تأريخه من الأمم الأخري.
ان حاله التفاعل و التبادل هذه باتت أمراً ضرورياً للعالم برمته، لكي تبقي الحياه الثقافيه و المعرفيه نابضه بالحركه و الحياه و التجدد.
هذا هو ما نعنيه بالتبادل الثقافي الايجابي و المطلوب.
الهدف من التبادل الثقافي هو إثراء الثقافه الوطنيه و سوقها نحو التكامل. أما الغزو الثقافي فهو يهدف لاستئصال الثقافه الوطنيه و اجتثاثها.
و في مسار عمليه التبادل الثقافي تأخذ الامه ما تراه لائقاً جيداً من ثقافه الآخرين، و ما تميل اليه.
افرضوا مثلاً، ان الشعب الايراني رأي في الشعوب الاوروبيه انها تتسم بصفات العناد (بمعني الصبر و المجاهده و الاصرار علي انجاز العمل) و التوثب و روح المغامره، فلو انه اخذ هذه الصفات عنها، لكان ذلك امراً حسناً.
يبادر الشعب اذن، في التبادل الثقافي الي النقاط الايجابيه، و ما يقود الي التكامل و الثراء في ثقافته، فيتعلمه، تماماً كالانسان الذي يصاب بالضعف في بدنه، فينكب علي تناول الغذاء الجيد أو الدواء المناسب لكي يتعافي و تعود له السلامه مجدداً.
اما في الغزو الثقافي، فان الامه المستهدفه به، تغذي بامور سلبيه و ثقافه ضاره. علي سبيل المثال، عندما بدأ الغزو الثقافي، الغربي لبلدنا، لم يصطحب الاوروبيون معهم قيماً ايجابيه من قبيل روحيه احترام قيمه الوقت.. الشجاعه.. تحمل الاخطار في مواجهه الامور.. و روحيه التدقيق و المثابره في البحث العلمي، و لم يريدوا لشعبنا ان يتربي علي هذه القيم و يتبعها، لكي لا يكون شعباً يقظاً يتحلي بالمسؤوليه في الانكباب علي العمل، و بالمثابره العلميه. كل الذي جلبوه معهم الي هذه البلاد هو التحلل و الاباحيه الجنسيه.
اذا شئناً تشبيه الامه التي تتلقي ثقافه الآخر عبر التبادل الثقافي بمثال من الحياه الانسانيه، فيمكن ان نستفيد من حال الانسان الذي ينزل الي السوق و ينتخب ما يشاء من الطعام و الدواء. اما في الغزو الثقافي فإن الشعب المستهدف كالمريض الذي لا يقوي علي الحراك. فيأتيه العدو منتهزاً الفرصه، و يزرقه بدواء، و حينئذ نعرف طبيعه الدواء الذي يزرقه العدو في جسم خصمه؟
الفرق واضح بين الحالين.. بين ان تنتخب انت الدواء او الغذاء المناسب لحاجه بدنك، و بين ان يختار لك عدوك.
و عليه، يكون التبادل الثقافي، مبادره تنطلق من جانبنا، أما الغزو فهو مبادره يمسك العدو بزمامها و يمارس عبرها، الهجوم ضدنا، لكي يستأصل ثقافتنا الذاتيه. لذلك نعد التبادل الثقافي إيجابياً، أما الغزو فهو ممارسه سلبيه. و من جهه اخري، ينطلق مسار التبادل الثقافي في زمن قوه الامه و قدرتها و امتلائها، أما الغزو فيكون في زمن ضعف الامه و هزالها.
الاستفاده من ثقافه الآخرين، أمر يبعث علي التكامل. و لكن ثمه فرق بين حال يمتلك فيها الانسان حريه انتخاب الطعام او الدواء الذي يوائم جسمه و صحته، عن وعي و معرفه و صحو و تنبه، من بين مئات الاطعمه و الادويه، و بين ان يجبر علي تناول طعام أو دواء يكون بضرره.
لنقرض ان احدنا بحاجه الي فيتامين (c) فحينئذ يركز جهده بحثاً عنه، ثم يتناوله علي قدر حاجه جسمه له، و هذا فعل إيجابي، لا ضير فيه، حتي لو كان من منتجات الاجانب و صناعتهم.
و ثمه الي جوار هذه الحاله، حاله ثانيه يسقط فيها الانسان مغشياً عليه، فيأتي احدهم و يزرق جسمه بدواء ما.. لا نعرف طبيعه هذا الدواء.. و لا مقداره و كميته.. و فيما اذا كان مخدراً ضاراً أو سماً زعافاً.. نافعاً او مفيداً، في مثل هذه الحال يعدم الاختيار، و لا يكون ثمه معني للانتخاب.
هذه امور يجب ان نتنبه اليها، فالذي كان يحصل في العهد البهلوي البائد، هو ممارسه من هذا القبيل، حيث كان هذا الشعب يغذي يثقافه الاجانب. بمعني ان اخذ ثقافه الآخر، لم يكن في الماضي بهدف تحقيق التكامل، بل بهدف إغراق الشعب بمستهلكات الثقافه الاجنبيه التي لا قيمه لها.
اضافه الي ان المسأله لم تكن تستند الي الاختيار، و لو كانت تقوم علي حريه الانتخاب لكان الامر سليماً.
و اذا شئنا الانصاف، فان ثقافه الغرب الآن تنطوي علي عناصر ايجابيه مفيده، و هي مصيريه بالنسبه الينا.. علينا ان نجذبها و نتعلمها.. الاشياء النافعه في ثقافه الغرب كثيره.. و اذا لم يكن ثمه وجود لهذه الاشياء النافعه لم يكن الغرب يصل الي ما وصل اليه اليوم.
فالفساد الواسع الذي يضرب المحيط الغربي بجرانه، كان يفترض ان يأتي علي الغرب و يستأصل وجوده من الجذور، بيد ان سبب بقاء كيانه و استمراره، يعود الي وجود عناصر، هي حقاً عناصر متينه في كيانهم، من قبيل كون انسانهم انساناً منظماً.. مثابراً.. كثيرالعمل.. لا يتعب.
لذلك كله يجب علينا ان نأخذ العناصر الايجابيه في ثقافتهم و نستفيد منها.
حين نعود الي اولئك الذين فتحوا ابواب البلاد طوال السنوات متماديه. امام الثقافه الغربيه، لا يصح ان نقول (اعتذاراً عنهم) انهم لا يكونوا علي علم بالثقافه الوافده، و لم يدركوا الموقف؛ و انهم أخذوا بالأمر الواقع، و اضطروا هذا الضرب من الثقافه المستورده التي دخلت الي ايران. أبداً، بل اقبلوا عليها لسبب كونها ثقافه اجنبيه، و هم من عباد الاجنبي و محبيه.. يستشعرون النقص من ذواتهم، لذلك فتحوا ابواب البلاد، و أمسي مثلهم في ذلك – في التنصل من ذواتهم و الانسلاخ عنها و الميل الي عباده الاجنبي، الغربي تحديداً – مثل الطفل الجاهل الذي لا يقيم وزناً لقيم ابيه، و انما تدفعه الجهاله للتماهي و الارتباط بشخص بعيد و الميل اليه، رغم انه اقل من ابيه
ثمه فرق بين العلم و التكنولوجيا و تبعاتهما، و بين الثقافه. فهما مقولتان منفصلتان، و ان كان العلم يعد فرعاً من الثقافه. فالثقافه بمعناها الخاص، بالنسبه الي امه من الامم هي عباره عن الافكار و المعتقدات و السنن و الآداب، و الذهنيه العامه، و الذخائر الكفريه و العقليه لتلك الامه. و من هذه الجهه بالذات لسنا فقط غير متأخرين عن ركب العالم المتقدم علمياً و تكنولوجيا، بل نحن متفوقون عليهم، في الكثير من هذه الجهات التي ترتبط بالمعني العام للثقافه.
بديهي لا نريد ان ننساق وراء الاغراق و المبالغه، و لا أن نسقط في هوه الاحكام المطلقه، فالاجانب و الاوروبيون بالذات متقدمون علينا في بعض فروع الثقافه.
لم يكتب آيه الله السيد الخامنئي هذه النصوص، بل هي مقتطعات من خطابات و بيانات قيلت في مناسبات مختلفه، جمعناها و قمنا بترجمتها، آملين ملاحظه الفرق بين النص المكتوب لغرض التأليف، و بين الكلام المقول.
«نحن ايرانيون، فعلينا اذن ان نبحث عما يرتبط بنا، و نعثر عليه. بديهي هذا لا يعني ان لا نتعلم من محاسن الآخرين. فالانسان يتعلم مما عند الآخرين من محاسن و اشياء جيده، و لكن من الافضل ان يذوب ما يكسبه، في ثقافته، ثم يستفيد منه.
لقد تحدثت مره عن الثقافه و قلت لا ضير من أخذ ثقافه الآخرين، و لكن علي نحو يتم فيه التمييز بين كيفيتين. و لتقريب المسأله نضرب لها مثالاً من عمل جسم الانسان. فجسم الانسان يتعاطي مع العناصر الغربيه بكيفيتين؛ ففي الكيفيه الاولي يتناول الانسان طعاماً يحوي فيتامينات مختلفه.. يخلط الطعام باللعاب و يدفعه الي داخل المعده، و حينئذ تمتص المعده ما تراه مفيداً للجسم مناسباً له، و تدفع الباقي و تلفظه.
هذا هو التعاطي الايجابي. و بإزائه ثمه نوع آخر من التعاطي، اذ نأتي بالانسان و نرسف يديه بالقيود، ثم نزرق في بدنه ماده لا يريدها و لا يرغب بها. هذه الحاله غير الحاله الاولي في كيفيه تعاطي الجسم مع العناصر الغريبه عليه.. و كان يمكن للمسأله ان تهون لو ان التزريق في الحاله الثانيه يتم من قبل طبيب عارف، و حريص علي الإنسان. و لكن ماذا لو كان هذا الطبيب عدواً، فماذا تراه يزرق في جسم خصمه؟
يلخص هذا المثال قصتنا مع الثقافه الغريبه (ثقافه الآخر) فنحن اليوم، مع الاسف، نستهلك الثقافه الاجنبيه، و هي تجد طريقها سالكاً الي اجسامنا من دون ان يصدر عنا رد فعل. و هذا هو ما يصطلح عليه بالغزو الثقافي.
يتخيل بعضهم انه هو المعني بالقضيه. الا ان المسأله تأخذ بعداً آخر، فالغزو الثقافي يأتينا من جهه معاديه.. من جهه الغرب، و علينا ان نستيقظ و نعي المسأله.. فنحن لا يسعنا ان نقول للعدو لا تتعامل معنا بعداوه و خصومه، لان العداوه من طبيعه العدو.
لذلك لا نملك –أنا و انتم – سوي ان نستيقظ و تلتزم جانب الحذر.
أجل، لو عثرنا في معارف الغرب علي ما يناسبنا، فعلينا ان نجذبه، و نتعاطي معه كما يتعاطي الانسان السليم مع الغذاء؛ اذ هو يجذب المفيد لجسمه و يدفع الضار. و كذا الحال مع – ثقافه الغرب – اذ علينا ان نتعامل معها تعاملاً عضوياً للجسم الحي، نأخذ ما يفيدنا و نلفظ ما لا ينفعنا.
في ضوء ذلك لا يصح لنا، أن نتعامل مع ثقافه الآخر تعامل الانسان الخالي من اي شيء.. الفاقد لكل خلقيه، كما لا يصح ان نتعامل معها تعامل الانسان الحائر الثمل.
لا أدري ماذا دهانا حتي تزرق الثقافه الغربيه بمثل هذا الشكل في ابداننا، في حين نملك امكانيه الاختيار؟ ما هو حاصل الآن؛ ان موج الثقافه الغربيه يغزونا و ينفذ في وجودنا من خلال المذياع و التلفاز و كتب الموضه و الموديلات و المجلات، و من خلال الموج الدعائي و الصخب الاعلامي.
اذا انفتح مجتمع ما علي المعارف و المعلومات، فستزدادً مناعته مقابل العدو. و اذا كان للمجتمع حساسيه ازاء العلم، فسيبادر حين تتاح له فرصه التواصل مع البلدان و المجتمعات الاخري، لكسب العلم و اخذه منها.
لقد مارست القدرات الاستعماريه نشاطها في ايران منذ سنوات و عندما جاء الحديث عن التبادل و التفاعل بين بلدنا و البلدان الاخري رأينا المسأله تأخذ مساراً معاكساً. فبدلاً من ان نعرض ثقافتنا العظميه امام العالم لتيعلم منها الآخرون، و نستفيد نحن في المقابل من علوم الآخرين، رأينا انفسنا – و هذا مجرد مثال- نعرض صناعاتنا اليدويه في معارض الآخرين أو نمنحهم نفطنا لكي يديروا عجله مصانعهم.. و نبقي بالمقابل بلا حراك أو رد فعل ايجابي، بانتظار ان يهبوننا ثقافتهم الفاسده!
هذه هي خلاصه قصه طلائع دعاه ارتباط ايران ثقافياً مع الغرب. فأولئك الرموز و الرواد الاوائل، لم يدعوا مواطنيهم الايرانيين ابداً الي كسب ما يستطيعون كسبه من العلم الغربي، و لو كانوا قد دعوا الي ذلك لاستقبلنا دعوتهم.
و نحن الآن نعلنها صراحه، ان العالم شهد تقدماً في العلوم، و أبقانا متخلفين قرنين او ثلاثه قرون عن ركبه.. علينا ان نلحق بالركب و نبلغ التقدم.. علينا ان نستفيد من علومهم و نكسبها.
التعليم و التعلم هما أمران ضروريان.. و علي كل واحد منا ان يتعلم.. و حين نعود الي الاسلام في الحديث المشهور «اطلب العلم و لو في الصين» نجد انه لم يكن بلد ابعد من الصين عن وطن المسلمين يومئذ. و مؤدي المثال، ان يكابد المسلم المشاق، ليكسب العلم و يتعلم. هكذا علم النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) المسلمين.. و نحن اليوم علي هذه العقيده.. علينا ان نستفيد من جميع العلوم، و لكن شرط ان يكون مبتغانا تعلم العلم و نيله، و ليس كسب مفاسد الاخلاق.. التلوث الاخلاقي.. الادمان.. الامراض الخطيره المميته كالطاعون الاميركي المسمي بالايدز، و بقيه ضروب المفاسد الاخلاقيه.
يحصل احياناً أن يكون العلم بيد اعدائنا، فنذهب اليهم و ننحني أمامهم لكسبه.. ليس في ذلك ضير، فالعلم أرفع شأواً من ان ينصرف عنه الانسان، لعداوه مع من يستحوذ عليه، و لكن ما يعنينا في هذا المضمار هو ان يخضع الانسان الي تأثير العدو، و يكون تبعاً له، و تحت سلطته، و ذلك في المسائل التي لا تنتسب الي العلم.. اي في السياسه و الثقافه و ما شاكل ذلك. ان ما يراد للعالم الثالث، و ما يخطط له، هو التبعيه الثقافيه و السياسيه.. لقد رتبوا الامور علي نحو لا يتم فيه تبادل العلم و التكنولوجيا.
و يمكن ان ندرج في هذا المضمار معضله فرار العقول و هجره الادمغه، التي يعاني منها العالم المتخلف منذ عشرات السنين.. فهم يخطفون افضل الطاقات و العقول التي تتحلي بها بلادنا، بل و لم يسمحوا - في اطار ابقاء حاله التخلف و ترسيخ التبعيه- للطاقات المستعده التي تلقت تعليمها في العالم الثالث نفسه، ان تعود للخدمه، الي بلادها.
ثم فارق بين الغزو الثقافي، و بين التفاعل او التبادل الثقافي.. التفاعل الثقافي يعبر عن ضروره تحتاج اليها الشعوب. فليس ثمه شعب من الشعوب يستطيع الاستغناء عن التعلم من معارف الشعوب الاخري، بما في ذلك الثقافه و المسائل التي تندرج في العنوان الثقافي.
و مسار التأريخ كان ابداً كاشفاً عن حاله التفاعل علي هذه، و شاهداً عليها باستمرار.
قادت العلاقه بين الشعوب، و التواصل فيما بينها، الي تفاعلها علي صعيد آداب العشره.. الاخلاقيات العامه.. العلم.. شكل اللباس.. طراز الحياه.. اللغه.. المعارف.. و الدين.. و هذا الضرب من التفاعل يفوق في أهميته عمليه التبادل الاقتصادي و تبادل السلع.
لقد شهدنا طوال التأريخ أمثله قاد فيها التفاعل (التبادل) الثقافي، الي تغيير دين بلد بأكمله. فالذي حصل في شرق آسيا علي سبيل المثال؛ اي في شرق المنطقه الاسلاميه، هو دخول الاسلام الي اندونيسيا و ماليزيا، و اجزاء مهمه من شبه القاره، عن طريق افراد قلائل (آحاد) من ابناء الشعب الايراني. و لم يتم انتشار الاسلام هناك عن طريق ممارسه المبلغين للدعوه.. فعن طريق حركه التجار و السياح الايرانيين تحول الشعب الاندونيسي الذي ربما يعد اكبر الشعوب الاسلاميه، الي الاسلام.
فالاسلام لم يصل الي تلك المنطقه للمره الاولي، لا عن طريق الدعاه و المبلغين الدينيين، و لا عن طريق السيف و الحرب و القتال، بل كانت الفضيله لعمليه التزاور و التبادل الثقافي.
لماذا نذهب بعيداً، و نحن نجد ان شعبنا تعلم اشياء كثيره طوال تأريخه من الأمم الأخري.
ان حاله التفاعل و التبادل هذه باتت أمراً ضرورياً للعالم برمته، لكي تبقي الحياه الثقافيه و المعرفيه نابضه بالحركه و الحياه و التجدد.
هذا هو ما نعنيه بالتبادل الثقافي الايجابي و المطلوب.
الهدف من التبادل الثقافي هو إثراء الثقافه الوطنيه و سوقها نحو التكامل. أما الغزو الثقافي فهو يهدف لاستئصال الثقافه الوطنيه و اجتثاثها.
و في مسار عمليه التبادل الثقافي تأخذ الامه ما تراه لائقاً جيداً من ثقافه الآخرين، و ما تميل اليه.
افرضوا مثلاً، ان الشعب الايراني رأي في الشعوب الاوروبيه انها تتسم بصفات العناد (بمعني الصبر و المجاهده و الاصرار علي انجاز العمل) و التوثب و روح المغامره، فلو انه اخذ هذه الصفات عنها، لكان ذلك امراً حسناً.
يبادر الشعب اذن، في التبادل الثقافي الي النقاط الايجابيه، و ما يقود الي التكامل و الثراء في ثقافته، فيتعلمه، تماماً كالانسان الذي يصاب بالضعف في بدنه، فينكب علي تناول الغذاء الجيد أو الدواء المناسب لكي يتعافي و تعود له السلامه مجدداً.
اما في الغزو الثقافي، فان الامه المستهدفه به، تغذي بامور سلبيه و ثقافه ضاره. علي سبيل المثال، عندما بدأ الغزو الثقافي، الغربي لبلدنا، لم يصطحب الاوروبيون معهم قيماً ايجابيه من قبيل روحيه احترام قيمه الوقت.. الشجاعه.. تحمل الاخطار في مواجهه الامور.. و روحيه التدقيق و المثابره في البحث العلمي، و لم يريدوا لشعبنا ان يتربي علي هذه القيم و يتبعها، لكي لا يكون شعباً يقظاً يتحلي بالمسؤوليه في الانكباب علي العمل، و بالمثابره العلميه. كل الذي جلبوه معهم الي هذه البلاد هو التحلل و الاباحيه الجنسيه.
اذا شئناً تشبيه الامه التي تتلقي ثقافه الآخر عبر التبادل الثقافي بمثال من الحياه الانسانيه، فيمكن ان نستفيد من حال الانسان الذي ينزل الي السوق و ينتخب ما يشاء من الطعام و الدواء. اما في الغزو الثقافي فإن الشعب المستهدف كالمريض الذي لا يقوي علي الحراك. فيأتيه العدو منتهزاً الفرصه، و يزرقه بدواء، و حينئذ نعرف طبيعه الدواء الذي يزرقه العدو في جسم خصمه؟
الفرق واضح بين الحالين.. بين ان تنتخب انت الدواء او الغذاء المناسب لحاجه بدنك، و بين ان يختار لك عدوك.
و عليه، يكون التبادل الثقافي، مبادره تنطلق من جانبنا، أما الغزو فهو مبادره يمسك العدو بزمامها و يمارس عبرها، الهجوم ضدنا، لكي يستأصل ثقافتنا الذاتيه. لذلك نعد التبادل الثقافي إيجابياً، أما الغزو فهو ممارسه سلبيه. و من جهه اخري، ينطلق مسار التبادل الثقافي في زمن قوه الامه و قدرتها و امتلائها، أما الغزو فيكون في زمن ضعف الامه و هزالها.
الاستفاده من ثقافه الآخرين، أمر يبعث علي التكامل. و لكن ثمه فرق بين حال يمتلك فيها الانسان حريه انتخاب الطعام او الدواء الذي يوائم جسمه و صحته، عن وعي و معرفه و صحو و تنبه، من بين مئات الاطعمه و الادويه، و بين ان يجبر علي تناول طعام أو دواء يكون بضرره.
لنقرض ان احدنا بحاجه الي فيتامين (c) فحينئذ يركز جهده بحثاً عنه، ثم يتناوله علي قدر حاجه جسمه له، و هذا فعل إيجابي، لا ضير فيه، حتي لو كان من منتجات الاجانب و صناعتهم.
و ثمه الي جوار هذه الحاله، حاله ثانيه يسقط فيها الانسان مغشياً عليه، فيأتي احدهم و يزرق جسمه بدواء ما.. لا نعرف طبيعه هذا الدواء.. و لا مقداره و كميته.. و فيما اذا كان مخدراً ضاراً أو سماً زعافاً.. نافعاً او مفيداً، في مثل هذه الحال يعدم الاختيار، و لا يكون ثمه معني للانتخاب.
هذه امور يجب ان نتنبه اليها، فالذي كان يحصل في العهد البهلوي البائد، هو ممارسه من هذا القبيل، حيث كان هذا الشعب يغذي يثقافه الاجانب. بمعني ان اخذ ثقافه الآخر، لم يكن في الماضي بهدف تحقيق التكامل، بل بهدف إغراق الشعب بمستهلكات الثقافه الاجنبيه التي لا قيمه لها.
اضافه الي ان المسأله لم تكن تستند الي الاختيار، و لو كانت تقوم علي حريه الانتخاب لكان الامر سليماً.
و اذا شئنا الانصاف، فان ثقافه الغرب الآن تنطوي علي عناصر ايجابيه مفيده، و هي مصيريه بالنسبه الينا.. علينا ان نجذبها و نتعلمها.. الاشياء النافعه في ثقافه الغرب كثيره.. و اذا لم يكن ثمه وجود لهذه الاشياء النافعه لم يكن الغرب يصل الي ما وصل اليه اليوم.
فالفساد الواسع الذي يضرب المحيط الغربي بجرانه، كان يفترض ان يأتي علي الغرب و يستأصل وجوده من الجذور، بيد ان سبب بقاء كيانه و استمراره، يعود الي وجود عناصر، هي حقاً عناصر متينه في كيانهم، من قبيل كون انسانهم انساناً منظماً.. مثابراً.. كثيرالعمل.. لا يتعب.
لذلك كله يجب علينا ان نأخذ العناصر الايجابيه في ثقافتهم و نستفيد منها.
حين نعود الي اولئك الذين فتحوا ابواب البلاد طوال السنوات متماديه. امام الثقافه الغربيه، لا يصح ان نقول (اعتذاراً عنهم) انهم لا يكونوا علي علم بالثقافه الوافده، و لم يدركوا الموقف؛ و انهم أخذوا بالأمر الواقع، و اضطروا هذا الضرب من الثقافه المستورده التي دخلت الي ايران. أبداً، بل اقبلوا عليها لسبب كونها ثقافه اجنبيه، و هم من عباد الاجنبي و محبيه.. يستشعرون النقص من ذواتهم، لذلك فتحوا ابواب البلاد، و أمسي مثلهم في ذلك – في التنصل من ذواتهم و الانسلاخ عنها و الميل الي عباده الاجنبي، الغربي تحديداً – مثل الطفل الجاهل الذي لا يقيم وزناً لقيم ابيه، و انما تدفعه الجهاله للتماهي و الارتباط بشخص بعيد و الميل اليه، رغم انه اقل من ابيه
ثمه فرق بين العلم و التكنولوجيا و تبعاتهما، و بين الثقافه. فهما مقولتان منفصلتان، و ان كان العلم يعد فرعاً من الثقافه. فالثقافه بمعناها الخاص، بالنسبه الي امه من الامم هي عباره عن الافكار و المعتقدات و السنن و الآداب، و الذهنيه العامه، و الذخائر الكفريه و العقليه لتلك الامه. و من هذه الجهه بالذات لسنا فقط غير متأخرين عن ركب العالم المتقدم علمياً و تكنولوجيا، بل نحن متفوقون عليهم، في الكثير من هذه الجهات التي ترتبط بالمعني العام للثقافه.
بديهي لا نريد ان ننساق وراء الاغراق و المبالغه، و لا أن نسقط في هوه الاحكام المطلقه، فالاجانب و الاوروبيون بالذات متقدمون علينا في بعض فروع الثقافه.